فصل: فَصْلٌ: (مِنْ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (نسخة منقحة)



.فَصْلٌ: [الِاسْتِشْهَادُ عَلَى الرِّسَالَةِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ]:

وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ} فَاسْتَشْهَدَ عَلَى رِسَالَتِهِ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ الِاسْتِشْهَادُ عَلَى رِسَالَةِ النَّبِيِّ بِشَهَادَةِ اللَّهِ لَهُ، وَلَابُدَّ أَنَّ تُعْلَمَ هَذِهِ الشَّهَادَةُ، وَتَقُومَ بِهَا الْحُجَّةُ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ لَهُ، وَكَذَلِكَ قوله: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} وقوله: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} فَهَذَا كُلُّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ لِرَسُولِهِ، قَدْ أَظْهَرَهَا وَبَيَّنَهَا، وَبَيَّنَ صِحَّتَهَا غَايَةَ الْبَيَانِ، بِحَيْثُ قَطَعَ الْعُذْرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِبَادِهِ، وَأَقَامَ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ، فَكَوْنُهُ سُبْحَانَهُ شَاهِدًا لِرَسُولِهِ: مَعْلُومٌ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الْأَدِلَّةِ: عَقْلِيِّهَا وَنَقْلِيِّهَا وَفِطْرِيِّهَا وَضَرُورِيِّهَا وَنَظَرِيِّهَا.
وَمَنْ نَظَرَ فِي ذَلِكَ وَتَأَمَّلَهُ؛ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ شَهِدَ لِرَسُولِهِ أَصْدَقَ الشَّهَادَةِ، وَأَعْدَلَهَا وَأَظْهَرَهَا، وَصَدَّقَهُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِ التَّصْدِيقِ: بِقَوْلِهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَرَاهِينَ عَلَى صِدْقِهِ فِيهِ، وَبِفِعْلِهِ وَإِقْرَارِهِ، وَبِمَا فَطَرَ عَلَيْهِ عِبَادَهُ: مِنَ الْإِقْرَارِ بِكَمَالِهِ، وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الْقَبَائِحِ، وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ يُحْدِثُ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى صِدْقِ رَسُولِهِ مَا يُقِيمُ بِهِ الْحُجَّةَ، وَيُزِيلُ بِهِ الْعُذْرَ، وَيَحْكُمُ لَهُ وَلِأَتْبَاعِهِ بِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّجَاةِ وَالظَّفَرِ وَالتَّأْيِيدِ، وَيَحْكُمُ عَلَى أَعْدَائِهِ وَمُكَذِّبِيهِ بِمَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ: مِنَ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ وَالْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ، الدَّالَّةِ عَلَى تَحْقِيقِ الْعُقُوبَاتِ الْمُؤَجَّلَةِ {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} فَيُظْهِرُهُ ظُهُورَيْنِ: ظُهُورًا بِالْحُجَّةِ، وَالْبَيَانِ، وَالدَّلَالَةِ، وَظُهُورًا بِالنَّصْرِ وَالظَّفَرِ وَالْغَلَبَةِ، وَالتَّأْيِيدِ، حَتَّى يُظْهِرَهُ عَلَى مُخَالِفِيهِ، وَيَكُونَ مْنُصُورًا.
وَقوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ} فَمَا فِيهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ الَّذِي لَا يَعْمَلُهُ غَيْرُهُ: مِنْ أَعْظَمِ الشَّهَادَةِ بِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَهُ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْإِخْبَارِ بِأَنَّهُ أَنْزَلَهُ- وَهُوَ مَعْلُومٌ لَهُ، كَمَا يَعْلَمُ سَائِرَ الْأَشْيَاءِ، فَإِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مَعْلُومٌ لَهُ مِنْ حَقٍّ وَبَاطِلٍ- وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنْزَلَهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ، فَنُزُولُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى عِلْمِهِ هُوَ آيَةُ كَوْنِهِ مِنْ عِنْدِهِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ذَكَرَ ذَلِكَ سُبْحَانَهُ تَكْذِيبًا وَرَدًّا عَلَى مَنْ قَالَ: افْتَرَاهُ.

.فَصْلٌ: [مِنْ شَهَادَتِهِ سُبْحَانَهُ مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ الْعِبَادِ مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ]

وَمِنْ شَهَادَتِهِ أَيْضًا: مَا أَوْدَعَهُ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ: مِنَ التَّصْدِيقِ الْجَازِمِ، وَالْيَقِينِ الثَّابِتِ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِكَلَامِهِ وَوَحْيِهِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ تُحِيلُ حُصُولَ ذَلِكَ بِمَا هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَذِبِ، وَالِافْتِرَاءِ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْإِخْبَارِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، بَلْ ذَلِكَ يُوقِعُ أَعْظَمَ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ، وَتَدْفَعُهُ الْفِطَرُ وَالْعُقُولُ السَّلِيمَةُ، كَمَا تَدْفَعُ الْفِطَرُ- الَّتِي فُطِرَ عَلَيْهَا الْحَيَوَانُ- الْأَغْذِيَةَ الْخَبِيثَةَ الضَّارَّةَ الَّتِي لَا تُغَذِّي، كَالْأَبْوَالِ وَالْأَنْتَانِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَطَرَ الْقُلُوبَ عَلَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالِانْقِيَادِ لَهُ، وَالطُّمَأْنِينَةِ بِهِ، وَالسُّكُونِ إِلَيْهِ وَمَحَبَّتِهِ، وَفَطَرَهَا عَلَى بُغْضِ الْكَذِبِ وَالْبَاطِلِ، وَالنُّفُورِ عَنْهُ، وَالرِّيبَةِ بِهِ، وَعَدَمِ السُّكُونِ إِلَيْهِ، وَلَوْ بَقِيَتِ الْفِطَرُ عَلَى حَالِهَا لَمَا آثَرَتْ عَلَى الْحَقِّ سِوَاهُ، وَلَمَا سَكَنَتْ إِلَّا إِلَيْهِ، وَلَا اطْمَأَنَّتْ إِلَّا بِهِ، وَلَا أَحَبَّتْ غَيْرَهُ، وَلِهَذَا نَدَبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عِبَادَهُ إِلَى تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ تَدَبَّرَهُ أَوْجَبَ لَهُ تَدَبُّرُهُ عِلْمًا ضَرُورِيًا وَيَقِينًا جَازِمًا: أَنَّهُ حَقٌّ وَصِدْقٌ، بَلْ أَحَقُّ كُلَّ الْحَقِّ، وَأَصْدَقُ كُلَّ صِدْقٍ، وَأَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ أَصْدَقُ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَبَرُّهُمْ، وَأَكْمَلُهُمْ عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} وقال تَعَالَى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} فَلَوْ رُفِعَتِ الْأَقْفَالُ عَنِ الْقُلُوبِ لَبَاشَرَتْهَا حَقَائِقُ الْقُرْآنِ، وَاسْتَنَارَتْ فِيهَا مَصَابِيحُ الْإِيمَانِ، وَعَلِمْتَ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَكُونُ عِنْدَهَا كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْوِجْدَانِيَّةِ- مِنَ الْفَرَحِ، وَالْأَلَمِ، وَالْحُبِّ، وَالْخَوْفِ- أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، تَكَلَّمَ بِهِ حَقًّا، وَبَلَّغَهُ رَسُولُهُ جِبْرِيلُ عَنْهُ إِلَى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ، فَهَذَا الشَّاهِدُ فِي الْقَلْبِ مِنْ أَعْظَمِ الشَّوَاهِدِ، وَبِهِ احْتَجَّ هِرَقْلُ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ لَهُ: فَهَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ سَخْطَةً لِدِينِهِ، بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ لَهُ: وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ إِذَا خَالَطَتْ حَلَاوَتُهُ بِشَاشَةَ الْقُلُوبِ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} وقوله: {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ} وقوله: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} وقوله: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} وقوله: {وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} يَعْنِي: أَنَّ الْآيَةَ الَّتِي يَقْتَرِحُونَهَا لَا تُوجِبُ هِدَايَةً، بَلِ اللَّهُ هُوَ الَّذِي يَهْدِي وَيُضِلُّ، ثُمَّ نَبَّهَهُمْ عَلَى أَعْظَمِ آيَةٍ وَأَجَلِّهَا، وَهِيَ: طُمَأْنِينَةُ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِذِكْرِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَقَالَ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ بِكِتَابِهِ وَكَلَامِهِ: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} فَطُمَأْنِينَةُ الْقُلُوبِ الصَّحِيحَةِ، وَالْفِطَرِ السَّلِيمَةِ بِهِ، وَسُكُونُهَا إِلَيْهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ؛ إِذْ يَسْتَحِيلُ فِي الْعَادَةِ أَنْ تَطْمَئِنَّ الْقُلُوبُ وَتَسْكُنَ إِلَى الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ وَالْبَاطِلِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شَهَادَةَ رُسُلِهِ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، فِي قَوْلِهِ: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ} فَيَقُولُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالرُّسُلُ، وَهُمْ أَعْظَمُ شَهَادَةً مِنْ أُولِي الْعِلْمِ؟
قِيلَ: فِي ذَلِكَ عِدَّةُ فَوَائِدَ.
إِحْدَاهَا: أَنَّ أُولِي الْعِلْمِ أَعَمُّ مِنَ الرُّسُلِ وَالْأَنْبِيَاءِ فَيَدْخُلُونَ هُمْ وَأَتْبَاعُهُمْ.
وَثَانِيهَا: أَنَّ فِي ذِكْرِ أُولِي الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَتَعْلِيقِهَا بِهِمْ: مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ مُوجِبَاتِ الْعِلْمِ وَمُقْتَضَيَاتِهِ، وَأَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ فَإِنَّهُ يَشْهَدُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، كَمَا يُقَالُ: إِذَا طَلَعَ الْهِلَالُ وَاتَّضَحَ، فَإِنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ يَرَاهُ، وَإِذَا فَاحَتْ رَائِحَةٌ ظَاهِرَةٌ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّمِّ يَشَمُّ هَذِهِ الرَّائِحَةَ، قَالَ تَعَالَى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} أَيْ كُلُّ مَنْ لَهُ رُؤْيَةٌ يَرَاهَا حِينَئِذٍ عِيَانًا، فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ مَنْ لَمْ يَشْهَدْ لَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْجُهَّالِ، وَإِنْ عَلِمَ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَمْ يَعْلَمْهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ مِنْ أُولِي الْجَهْلِ، لَا مِنْ أُولِي الْعِلْمِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ، وَيُؤَدِّيهَا عَلَى وَجْهِهَا إِلَّا اتْبَاعُ الرُّسُلِ أَهْلُ الْإِثْبَاتِ، فَهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، وَسَائِرُ مَنْ عَدَاهُمْ أُولُو الْجَهْلِ، وَإِنْ وَسَّعُوا الْقَوْلَ وَأَكْثَرُوا الْجِدَالَ.
وَمِنْهَا: الشَّهَادَةُ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِأَهْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّهُمْ أُولُو الْعِلْمِ، فَشَهَادَتُهُ لَهُمْ أَعْدَلُ وَأَصْدَقُ مِنْ شَهَادَةِ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعَطِّلَةِ وَالْفِرْعَوْنِيَّةِ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ جُهَّالٌ، وَأَنَّهُمْ حَشَوِيَّةٌ، وَأَنَّهُمْ مُشَبِّهَةٌ، وَأَنَّهُمْ مُجَسِّمَةٌ وَنَوَابِتُ وَنَوَاصِبُ، فَكَفَاهُمْ أَصْدَقُ الصَّادِقِينَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُولِي الْعِلْمِ إِذْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقِيقَةِ مَا شَهِدَ بِهِ لِنَفْسِهِ، مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَأَثْبَتُوا لَهُ حَقِيقَةَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَمَضْمُونَهَا، وَخُصُومُهُمْ نَفَوْا عَنْهُ حَقَائِقَهَا، وَأَثْبَتُوا لَهُ أَلْفَاظَهَا وَمَجَازَاتِهَا.

.فَصْلٌ: [ضِمْنُ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ]:

وَفِي ضِمْنِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ الثَّنَاءُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ بِهَا وَتَعْدِيلِهِمْ. تَضْمِينُ الشَّهَادَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِثَنَاءٍ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ الشَّاهِدِينَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَرَنَ شَهَادَتَهُمْ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ مَلَائِكَتِهِ، وَاسْتَشْهَدَ بِهِمْ- جَلَّ وَعَلَا- عَلَى أَجَلٍ مَشْهُودٍ بِهِ، وَجَعَلَهُمْ حُجَّةً عَلَى مَنْ أَنْكَرَ هَذِهِ الشَّهَادَةَ، كَمَا يَحْتَجُّ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ الْحَقَّ، فَالْحُجَّةُ قَامَتْ بِالرُّسُلِ عَلَى الْخَلْقِ، وَهَؤُلَاءِ نُوَّابُ الرُّسُلِ وَخُلَفَاؤُهُمْ فِي إِقَامَةِ حُجَجِ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ.

.فَصْلٌ: [تَفْسِيرُ شَهَادَةِ أُولِي الْعِلْمِ]:

وَقَدْ فُسِّرَتْ شَهَادَةُ أُولِي الْعِلْمِ بِالْإِقْرَارِ، وَفُسِّرَتْ بِالتَّبْيِينِ وَالْإِظْهَارِ، وَالصَّحِيحُ: أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَشَهَادَتُهُمْ إِقْرَارٌ، وَإِظْهَارٌ، وَإِعْلَامٌ، وَهُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} وقال تَعَالَى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فَأَخْبَرَ: أَنَّهُ جَعَلَهُمْ عُدُولًا خِيَارًا، وَنَوَّهَ بِذِكْرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يُوجِدَهُمْ، لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ مِنَ اتِّخَاذِهِ لَهُمْ شُهَدَاءً يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ- عِلْمًا وَعَمَلًا، وَمَعْرِفَةً وَإِقْرَارًا، وَدَعْوَةً وَتَعْلِيمًا، وَإِرْشَادًا- فَلَيْسَ مِنْ شُهَدَاءِ اللَّهِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ: هَلْ هُوَ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ، أَوْ دَاخِلٌ فِي مَضْمُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ؟ فَهُوَ بَعْضُ الْمَشْهُودِ بِهِ.
وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فِي كَسْرِ إِنَّ وَفَتْحِهَا، فَالْأَكْثَرُونَ عَلَى كَسْرِهَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، وَفَتَحَهَا الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ، وَالْوَجْهُ: هُوَ الْكَسْرُ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي قَبْلَهُ قَدْ تَمَّ، فَالْجُمْلَةُ الثَّانِيَةُ مُقَرِّرَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِمَضْمُونِ مَا قَبْلَهَا، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي التَّقْرِيرِ، وَأَذْهَبُ فِي الْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ، وَلِهَذَا كَانَ كَسْرُ {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ، وَكَانَ الْكَسْرُ فِي قَوْلِ الْمُلَبِّي لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ أَحْسَنَ مِنَ الْفَتْحِ.
وَقَدْ ذَكَرَ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ الْكِسَائِيِّ ثَلَاثَةَ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ، فَهِيَ وَاقِعَةٌ عَلَى {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} وَهُوَ الْمَشْهُودُ بِهِ، وَيَكُونُ فَتْحُ {أَنَّهُ} مِنْ قوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، أَيْ بِأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَهَذَا تَوْجِيهُ الْفَرَّاءِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ جِدًّا، فَإِنَّ الْمَعْنَى عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ هُوَ نَفْسُ قَوْلِهِ {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} فَالْمَشْهُودُ بِهِ أَنَّ وَمَا فِي حَيِّزِهَا، وَالْعِنَايَةُ إِلَى هَذَا صُرِفَتْ، وَبِهِ حَصَلَتْ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْقَوْلِ- مَعَ ضَعْفِهِ- وَجْهٌ، وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ بِتَوْحِيدِهِ، أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَالْإِسْلَامُ: هُوَ تَوْحِيدُهُ سُبْحَانَهُ، فَتَضَمَّنَتِ الشَّهَادَةُ تَوْحِيدَهُ، وَتَحْقِيقَ دِينِهِ: أَنَّهُ الْإِسْلَامُ لَا غَيْرُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ وَاقِعَةً عَلَى الْجُمْلَتَيْنِ مَعًا، كِلَاهُمَا مَشْهُودٌ بِهِ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْوَاوِ وَإِرَادَتِهَا، وَالتَّقْدِيرُ: وَأَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، فَتَكُونُ جُمْلَةً اسْتَغْنَى فِيهَا عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ بِمَا تَضَمَّنَتْ مِنْ ذِكْرِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، كَمَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهَا فِي قوله: {ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} فَيَحْسُنُ ذِكْرُ الْوَاوِ وَحَذْفُهَا، كَمَا حُذِفَتْ هُنَا، وَذُكِرَتْ فِي قوله: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ}.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ- وَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ-: أَنْ يَجْعَلَ أَنَّ الثَّانِيَةَ بَدَلًا مِنْ الْأُولَى، وَالتَّقْدِيرُ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ، وَقوله: {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُو} تَوْطِئَةٌ لِلثَّانِيَةِ وَتَمْهِيدٌ، وَيَكُونُ هَذَا مِنَ الْبَدَلِ الَّذِي الثَّانِي فِيهِ نَفْسُ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ الدِّينَ الَّذِي هُوَ نَفْسُ الْإِسْلَامِ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَالْقِيَامُ بِحَقِّهَا، وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ بَابِ بَدَلِ الِاشْتِمَالِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَشْتَمِلُ عَلَى التَّوْحِيدِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّ الدِّينَ عِنْدَهُ الْإِسْلَامُ، فَلِمَ عَدَلَ إِلَى لَفْظِ الظَّاهِرِ؟
قِيلَ: هَذَا يُرَجِّحُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، وَأَنَّهَا أَفْصَحُ وَأَحْسَنُ، وَلَكِنْ يَجُوزُ إِقَامَةُ الظَّاهِرِ مَقَامَ الْمُضْمَرِ، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ كَثِيرًا، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} وقال: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وقال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: افْتَخَرَ الْمُشْرِكُونَ بِآبَائِهِمْ، فَقَالَ كُلُّ فَرِيقٍ: لَا دِينَ إِلَّا دِينُ آبَائِنَا، وَمَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} يَعْنِي الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ، وَهُوَ دِينُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، لَيْسَ لِلَّهِ دِينٌ سِوَاهُ {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.
وَقَدْ دَلَّ قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} عَلَى أَنَّهُ دِينُ جَمِيعِ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلَّهِ قَطُّ وَلَا يَكُونُ لَهُ دِينٌ سِوَاهُ، قَالَ أَوَّلُ الرُّسُلِ نُوحٌ {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} وقال إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}، {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} وقال يَعْقُوبُ لِبَنِيهِ عِنْدَ الْمَوْتِ {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ}- إِلَى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وقال مُوسَى لِقومه: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ} وقال تَعَالَى: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} وقالتْ مَلِكَةُ سَبَأٍ {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
فَالْإِسْلَامُ دِينُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ، وَدِينُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ دِينًا سِوَاهُ، فَأَدْيَانُ أَهْلِ الْأَرْضِ سِتَّةٌ: وَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ، وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ، فَدِيْنُ الرَّحْمَنِ: هُوَ الْإِسْلَامُ، وَالَّتِي لِلشَّيْطَانِ: الْيَهُودِيَّةُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ، وَالْمَجُوسِيَّةُ، وَالصَّابِئَةُ، وَدِينُ الْمُشْرِكِينَ.
فَهَذَا بَعْضُ مَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْعَظِيمَةُ مِنْ أَسْرَارِ التَّوْحِيدِ وَالْمَعَارِفِ، وَلَا تَسْتَطِلِ الْكَلَامَ فِيهَا، فَإِنَّهُ أَهَمُّ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى كَلَامِ صَاحِبِ الْمَنَازِلِ، فَلْنَرْجِعْ إِلَى شَرْحِ كَلَامِهِ وَبَيَانِ مَا فِيهِ.
قَالَ: وَإِنَّمَا نَطَقَ الْعُلَمَاءُ بِمَا نَطَقُوا بِهِ، وَأَشَارَ الْمُحَقِّقُونَ إِلَى مَا أَشَارُوا إِلَيْهِ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ: لِقَصْدِ تَصْحِيحِ التَّوْحِيدِ، وَمَا سِوَاهُ- مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ-: فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ.
يُرِيدُ: أَنَّ التَّوْحِيدَ هُوَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْ جَمِيعِ الْمَقَامَاتِ وَالْأَعْمَالِ وَالْأَحْوَالِ، فَغَايَتُهَا كُلِّهَا التَّوْحِيدُ، وَإِنَّمَا كَلَامُ الْعُلَمَاءِ وَالْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ السُّلُوكِ كُلُّهِ لِقَصْدِ تَصْحِيحِهِ، وَهَذَا بَيِّنٌ مِنْ أَوَّلِ الْمَقَامَاتِ إِلَى آخِرِهَا، فَإِنَّهَا تُشِيرُ إِلَى تَصْحِيحِهِ وَتَجْرِيدِهِ.
وَقَوْلُهُ وَمَا سِوَاهُ- مِنْ حَالٍ أَوْ مَقَامٍ- فَكُلُّهُ مَصْحُوبُ الْعِلَلِ يُرِيدُ: أَنَّ تَجْرِيدَ التَّوْحِيدِ لَا عِلَّةَ مَعَهُ، إِذْ لَوْ كَانَ مَعَهُ عِلَّةٌ تَصْحَبُهُ لَمْ يُجَرَّدْ، فَتَجَرُّدُهُ يَنْفِي عَنْهُ الْعِلَلَ بِالْكُلِّيَّةِ، بِخِلَافِ مَا سِوَاهُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ، فَإِنَّ الْعِلَلَ تَصْحَبُهَا، وَعِنْدَهُمْ: أَنَّ عِلَلَ الْمَقَامَاتِ لَا تَزُولُ بِتَجْرِيدِ التَّوْحِيدِ، مِثَالُهُ: أَنَّ عِلَّةَ مَقَامِ التَّوَكُّلِ أَنْ يَشْهَدَ مَتَوَكِّلًا وَمُتَوَكَّلًا عَلَيْهِ، وَمُتَوَكَّلًا فِيهِ، وَيَشْهَدَ نَفْسَ تَوَكُّلِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِلَّةٌ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ لَهُ مَقَامُهُ إِلَّا بِأَنْ لَا يَشْهَدَ مَعَ الْوَكِيلِ الْحَقِّ الَّذِي يَتَوَكَّلُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَلَا يَرَى تَوَكُّلَهُ عَلَيْهِ سَبَبًا لِحُصُولِ الْمَطْلُوبِ، وَلَا وَسِيلَةً إِلَيْهِ.
وَفِيهِ عِلَّةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنْ هَذِهِ عِنْدَ أَرْبَابِ الْفَنَاءِ، وَهِيَ: أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ قَدْ وَكَّلَ أَمْرَهُ إِلَى مَوْلَاهُ، وَالْتَجَأَ إِلَى كِفَايَتِهِ وَتَدْبِيرِهِ لَهُ، وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ، قَالُوا: وَهَذَا فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ؛ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ، وَوَقَفَ مَعَ الْمُسَبِّبِ وَحْدَهُ، وَالْمُتَوَكِّلِ- وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ- فَإِنَّهُ وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ، فَصَارَ تَوَكُّلُهُ بَدَلًا مِنْ تِلْكَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِمَا رَفَضَهُ.
وَتَجْرِيدُ التَّوَكُّلِ عِنْدَهُمْ وَحَقِيقَتُهُ: هُوَ تَخْلِيصُ الْقَلْبِ مِنْ عِلَّةِ التَّوَكُّلِ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ فَرَغَ مِنَ الْأَسْبَابِ وَقَدَّرَهَا، وَهُوَ سُبْحَانَهُ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إِلَى الْمَوَاقِيتِ، فَالْمُتَوَكِّلُ حَقِيقَةً- عِنْدَهُمْ- هُوَ مَنْ أَرَاحَ نَفْسَهُ مِنْ كَدِّ النَّظَرِ، وَمُطَالَعَةِ السَّبَبِ، سُكُونًا إِلَى مَا سَبَقَ لَهُ مِنَ الْقَسْمِ، مَعَ اسْتِوَاءِ الْحَالَيْنِ عِنْدَهُ، وَهُوَ أَنْ يَعْلَمَ: أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَنْفَعُ، وَالتَّوَكُّلَ لَا يَجْمَعُ، وَمَتَى طَالَعَ بِتَوَكُّلِهِ عَرَضًا كَانَ تَوَكُّلُهُ مَدْخُولًا، وَقَصْدُهُ مَعْلُولًا، فَإِذَا خَلَصَ مِنْ رِقِّ هَذِهِ الْأَسْبَابِ، وَمُطَالَعَةِ الْعَوَارِضِ، وَلَمْ يُلَاحِظْ فِي تَوَكُّلِهِ سِوَى خَالِصِ حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ؛ كَفَاهُ تَعَالَى كُلَّ مُهِمٍّ، كَمَا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى مُوسَى: كُنْ لِي كَمَا أُرِيدُ، أَكُنْ لَكَ كَمَا تُرِيدُ.
وَهَذَا الْكَلَامُ وَأَمْثَالُهُ بَعْضُهُ صَوَابٌ، وَبَعْضُهُ خَطَأٌ، وَبَعْضُهُ مُحْتَمَلٌ.
فَقَوْلُهُ إِنَّ التَّوَكُّلَ فِي طَرِيقِ الْخَاصَّةِ عَمًى عَنِ التَّوْحِيدِ، وَرُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ خَطَأٌ مَحْضٌ، بَلِ التَّوَكُّلُ: حَقِيقَةُ التَّوْحِيدِ، وَلَا يَتِمُّ التَّوْحِيدُ إِلَّا بِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ التَّوَكُّلِ بَيَانُ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ مِنْ مَقَامَاتِ الرُّسُلِ، وَهُمْ خَاصَّةُ الْخَاصَّةِ، وَإِنَّمَا الْمُتَحَذْلِقُونَ الْمُتَنَطِّعُونَ جَعَلُوهُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ، وَلَا أَخَصَّ مِمَّنْ أَرْسَلَ اللَّهُ وَاصْطَفَى، وَلَا أَعْلَى مِنْ مَقَامَاتِهِمْ.
وَقَوْلُهُ إِنَّهُ رُجُوعٌ إِلَى الْأَسْبَابِ يُقَالُ: بَلْ هُوَ قِيَامٌ بِحَقِّ الْأَمْرِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ اقْتَضَتْ حِكْمَتُهُ رَبْطَ الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا، وَجَعَلَ التَّوَكُّلَ وَالدُّعَاءَ مِنْ أَقْرَبِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، فَالتَّوَكُّلُ امْتِثَالٌ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَمُوَافَقَةٌ لِحِكْمَتِهِ، وَعُبُودِيَّةِ الْقَلْبِ لَهُ، فَكَيْفَ يَكُونُ مَصْحُوبَ الْعِلَلِ؟ وَكَيْفَ يَكُونُ مِنْ مَقَامَاتِ الْعَامَّةِ؟
وَقَوْلُهُ لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ قَدْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا يُقَالُ لَهُ: هَذَا الرَّفْضُ لَا يَخْرُجُ عَنِ الْكُفْرِ تَارَةً، وَالْفِسْقِ تَارَةً، وَالتَّقْصِيرِ تَارَةً، فَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِالْقِيَامِ بِالْأَسْبَابِ، فَمَنْ رَفَضَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَقُومَ بِهِ فَقَدْ ضَادَ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ، وَكَيْفَ يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَرْفُضَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا؟
فَإِنْ قُلْتَ: لَيْسَ الْمُرَادُ رَفْضَ الْقِيَامِ بِهَا، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ: رَفَضَ الْوُقُوفِ مَعَهَا.
قُلْتُ: وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، فَإِنَّ الْوُقُوفَ مَعَ الْأَسْبَابِ قِسْمَانِ:
وُقُوفٌ مَأْمُورٌ بِهِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ أَنْ يَقِفَ مَعَهَا حَيْثُ أَوْقَفَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، فَلَا يَتَعَدَّى حُدُودَهَا، وَلَا يَقْصُرُ عَنْهَا، فَيَقِفُ مَعَهَا مُرَاعَاةً لِحُدُودِهَا وَأَوْقَاتِهَا وَشَرَائِطِهَا، وَهَذَا الْوُقُوفُ لَا تَتِمُّ الْعُبُودِيَّةُ إِلَّا بِهِ.
وَوُقُوفٌ مَعَهَا، بِحَيْثُ يَعْتَقِدُ أَنَّهَا هِيَ الْفَاعِلَةُ الْمُؤَثِّرَةُ بِنَفْسِهَا، وَأَنَّهَا تَنْفَعُ وَتَضُرُّ بِذَاتِهَا، فَهَذَا لَا يَعْتَقِدُهُ مُوَحِّدٌ، وَلَا يَحْتَاجُ أَنْ يَحْتَرِزَ مِنْهُ مَنْ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالسُّلُوكِ، نَعَمْ، لَا يَنْقَطِعُ بِهَا عَنْ رُؤْيَةِ الْمُسَبِّبِ، وَيَعْتَقِدُهَا هِيَ الْغَايَةُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ، بَلْ هِيَ وَسِيلَةٌ تُوَصِّلُ إِلَى الْغَايَةِ، وَلَا تَصِلُ إِلَى الْغَايَةِ الْمَطْلُوبَةِ بِدُونِهَا، فَهَذَا حَقٌّ، لَكِنْ لَا يُجَامِعُ رَفْضَهَا وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، بَلْ يَقُومُ بِهَا، مُعْتَقِدًا أَنَّهَا وَسِيلَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَى الْغَايَةِ، فَهِيَ كَالطَّرِيقِ الْحِسِّيِّ الَّذِي يَقْطَعُهُ الْمُسَافِرُ إِلَى مَقْصِدِهِ، فَإِنْ قِيلَ لَهُ: ارْفُضِ الطَّرِيقَ، وَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهَا؛ انْقَطَعَ عَنِ الْمَسِيرِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنْ جَعَلَهَا غَايَتَهُ، وَلَمْ يَقْصِدْ بِالسَّيْرِ فِيهَا وُصُولَهُ إِلَى مَقْصِدٍ مُعَيَّنٍ؛ كَانَ مُعْرِضًا عَنِ الْغَايَةِ، مُشْتَغِلًا بِالطَّرِيقِ، وَإِنْ قِيلَ لَهُ: الْتَفِتْ إِلَى طَرِيقِكِ وَمَنَازِلِ سِيَرِكَ، وَرَاعِهَا، وَسِرْ فِيهَا نَاظِرًا إِلَى الْمَقْصُودِ، عَامِلًا عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَهَذَا هُوَ الْحَقُّ.
وَقَوْلُهُ: الْمُتَوَكِّلُ- وَإِنْ رَفَضَ الْأَسْبَابَ- وَاقِفٌ مَعَ تَوَكُّلِهِ.
فَيُقَالُ: إِنْ وَقَفَ مَعَ تَوَكُّلِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ، وَأَدَاءً لِحَقِّ عُبُودِيَّتِهِ، مَعْتَقِدًا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي مَنَّ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ، وَأَقَامَهُ فِيهِ، وَجَعَلَهُ سَبَبًا مُوَصِّلًا لَهُ إِلَى مَطْلُوبِهِ، فَنِعْمَ الْوُقُوفُ وَقَفَ، وَمَا أَحْسَنَهُ مِنْ وُقُوفٍ! وَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ اعْتِقَادًا أَنَّ بِنَفْسِ تَوَكُّلِهِ وَعَمَلِهِ يَصِلُ، مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنْ فَضْلِ رَبِّهِ وَإِعَانَتِهِ، وَمَنِّهِ عَلَيْهِ بِالتَّوَكُّلِ؛ فَهُوَ وُقُوفٌ مُنْقَطِعٌ عَنِ اللَّهِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ التَّوَكُّلَ بَدَلٌ مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي رَفَضَهَا، فَالْمُتَوَكِّلُ مُتَنَقِّلٌ مِنْ سَبَبٍ إِلَى سَبَبٍ يُقَالُ لَهُ: إِنْ كَانَتِ الْأَسْبَابُ الَّتِي رَفَضَهَا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهَا، فَالتَّوَكُّلُ الْمُجَرَّدُ خَيْرٌ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا، فَرَفْضُهُ لَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ مَعْصِيَةٌ وَخُرُوجٌ عَنِ الْأَمْرِ.
نَعَمْ لِلتَّوَكُّلِ ثَلَاثُ عِلَلٍ عِلَلُ مَقَامِ التَّوَكُّلِ، إِحْدَاهَا: أَنْ يَتْرُكَ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْأَسْبَابِ، اسْتِغْنَاءً بِالتَّوَكُّلِ عَنْهَا، فَهَذَا تَوَكُّلُ عَجْزٍ وَتَفْرِيطٍ وَإِضَاعَةٍ، لَا تَوَكُّلُ عُبُودِيَّةٍ وَتَوْحِيدٍ، كَمَنْ يَتْرُكُ الْأَعْمَالَ الَّتِي هِيَ سَبَبُ النَّجَاةِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهَا وَيَتْرُكُ الْقِيَامَ بِأَسْبَابِ الرِّزْقِ- مِنْ الْعَمَلِ وَالْحِرَاثَةِ وَالتِّجَارَةِ وَنَحْوِهَا- وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، وَيَتْرُكُ طَلَبَ الْعِلْمِ، وَيَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِهِ، فَهَذَا تَوَكُّلُهُ عَجْزٌ وَتَفْرِيطٌ، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: لَا تَكُنْ مِمَّنْ يَجْعَلُ تَوَكُّلَهُ عَجْزًا، وَعَجْزَهُ تَوَكُّلًا.
الْعِلَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَوَكَّلَ فِي حُظُوظِهِ وَشَهَوَاتِهِ دُونَ حُقُوقِ رَبِّهِ، كَمَنْ يَتَوَكَّلُ فِي حُصُولِ مَالٍ أَوْ زَوْجَةٍ أَوْ رِيَاسَةٍ، وَأَمَّا التَّوَكُّلُ فِي نُصْرَةِ دِينِ اللَّهِ، وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ وَإِظْهَارِ سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَجِهَادِ أَعْدَائِهِ فَلَيْسَ فِيهِ عِلَّةٌ، بَلْ هُوَ مُزِيلٌ لِلْعِلَلِ.
الْعِلَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى تَوَكُّلَهُ مِنْهُ، وَيَغِيبُ بِذَلِكَ عَنْ مُطَالَعَةِ الْمِنَّةِ وَشُهُودِ الْفَضْلِ، وَإِقَامَةِ اللَّهِ لَهُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ، وَلَيْسَ مُجَرَّدُ رُؤْيَةِ التَّوَكُّلِ عِلَّةً، كَمَا يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، بَلْ رُؤْيَةُ التَّوَكُّلِ، وَأَنَّهُ مِنْ عَيْنِ الْجُودِ، وَمَحْضِ الْمِنَّةِ، وَمُجَرَّدِ التَّوْفِيقِ عُبُودِيَّةٌ، وَهِيَ أَكْمَلُ مِنْ كَوْنِهِ يَغِيبُ عَنْهُ وَلَا يَرَاهُ، فَالْأَكْمَلُ أَنْ لَا يَغِيبَ بِفَضْلِ رَبِّهِ عَنْهُ، وَلَا بِهِ عَنْ شُهُودِ فَضْلِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
فَهَذِهِ الْعِلَلُ الثَّلَاثُ هِيَ الَّتِي تَعْرِضُ فِي مَقَامِ التَّوَكُّلِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْمَقَامَاتِ، وَهِيَ الَّتِي يَعْمَلُ الْعَارِفُونَ بِاللَّهِ وَأَمْرِهِ عَلَى قَطْعِهَا، وَهَكَذَا الْكَلَامُ فِي سَائِرِ عِلَلِ الْمَقَامَاتِ، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا هَذَا مِثَالًا لِمَا يُذْكَرُ مِنْ عِلَلِهَا، وَقَدْ أَفْرَدَ لَهَا صَاحِبُ الْمَنَازِلِ مُصَنَّفًا لَطِيفًا، وَجَعَلَ غَالِبَهَا مَعْلُولًا، وَالصَّوَابُ: أَنَّ عِلَلَهَا هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْمَذْكُورَةَ، أَنْ يَتْرُكَ بِهَا مَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا، وَأَنْ يُعَلِّقَهَا بِحَظِّهِ، وَالِانْقِطَاعِ بِهَا عَنِ الْمَقْصُودِ، وَأَنْ لَا يَرَاهَا مِنْ عَيْنِ الْمِنَّةِ وَمَحْضِ الْجُودِ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.